لا أذهب في السوبر ماركت إلى جهاز الدفع الآلي السريع بل أدفع عن طريق موظف(ة) الكاشيير. وهي عادة ما تسألني كيف حالي اليوم وهل وجدت كل ما أبحث عنه في المحل، ثم تختمها بأن تتمنى لي يوما سعيدا! بالأمس وأنا أدفع للمحاسبة الشابة، قلت لها بما يشبه الاعتذار إن أمثالي لا شك يزعجونكم لأنهم لا يجيدون استخدام الجهاز الآلي. ففاجأتني بقولها إنها، على العكس، سعيدة بي وبأمثالي، لأنه لولانا لفقدت وظيفتها!
هي أوجزت واحدة من أعقد المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات الآن... الآلات تأكلنا فعليا، وتلغي جزءا من وجودنا. فهناك الكثير من الوظائف التي سرقتها الكمبيوترات من البشر مثل حجوزات الطيران والفنادق والأعمال الإدارية. وقريبا جدا ستختفي مهنة السائق مثلا حين تصبح السيارات تقود نفسها. ثم جاء فيروس كورونا ليزيد من الطلب على الخدمات المؤتمتة حيث أصبح موظفو القطاع العام وشركات الخدمات يتحاشون رؤية العملاء، ويتم تقديم أغلب الخدمات أونلاين... كما أن المؤسسات أدركت فجأة كمية الوفر الذي يمكن تحقيقه بجعل الموظفين يعملون من منازلهم على الكمبيوترات، الأمر الذي زاد من التباعد بين البشر في عصر "التواصل"!
في سياق التباعد، قال الدكتور فيفك مورتي، كبير الجراحين السابق في الإدارة الأمريكية، أي المُفتي الطبي للدولة، قال في مقابلة صحفية "إن أخطر مرض قاتل في عصرنا ليس السرطان وليس أمراض القلب بل العزلة"! فهي تسبب تدهور الحالة النفسية للشخص مما يضعف جهاز المناعة ويترك الجسم عرضة للأمراض القاتلة.
كثير من العزلة سببه اليوم هذا الهوس بأجهزة الموبايل وشاشات الكمبيوتر. ويعلق أحد علماء الاجتماع على ذلك بالقول إن مصافحة صديق ومعانقة صاحب بعد طول غياب و "الهاي فايف" مع مدرب الرياضة والمحادثة وجها لوجه مع الأحباب هي بالتأكيد أنفع للصحة من كل "لايكات" الأصدقاء الافتراضين على الفيسبوك ومن الحوارات على الكمبيوتر والموبايل. ويُضيف الباحث أنه في السابق كنت أذا أردت معاقبة ابنك المراهق في البيت تقول له " اذهب إلى غرفتك ولا تريني وجهك". أما اليوم، أصبح العقاب أن تطلب من ابنك الخروج من غرفته وترك اللابتوب ليجلس مع باقي أفراد الأسرة في غرفة المعيشة. وبالنسبة للولد، فإن ذلك منتهى القسوة!
وطبعا الجيل القادم من الروبوتات سيأخذنا إلى عوالم مغايرة تماما ويضعنا بمواجهة تعقيدات سوسيولوجية وأخلاقية ودينية وسيحدث ذلك بسرعة تفوق قدرتنا على التأقلم وعلى سن القوانين التنظيمية المناسبة! ...كيف سيتم التعويض لمن سيتم تسريحهم لكي تحل الآلات محلهم؟ وهل سيجيز رجال الأديان مثلا الزواج من روبوت عاقل مفكر؟ ..... ولا حصر للأسئلة المشابهة.
القادم مذهل، ونتمنى ألا نكون أقل شعوب العالم استعدادا. وكالعادة سيسهل التنظير ويصعب التطبيق
----------------------------------------------------