السبت، 31 مارس 2018

مفارقة الدوله السوريه مع شعبها والدول الأخرى

خلاصة

إذا نظرنا إلى الدولة بوصفها عملية تهدف على احتكار السيادة في مواجهة ادعاءات أخرى مضادة، وإخضاع متزايد لمجالات الحياة الاجتماعية لسلطتها البيروقراطية ومن دون المرور عبر هيئات وسيطة تدعي تمثيل جماعات ما، وأن يحوز هذا الاخضاع على القبول باعتبار الدولة ممثلة للشعب، فعملية بناء الدولة لم تنجح في سوريا في الوصول على هدفها برغم نجاحات عديدة هنا وهناك. فهي لم تحز على الشرعية ولا استطاعت أن تقدم نفسها باعتبارها المركز النهائي للسيادة، ولا هي كانت قادرة على تعبئة وحشد الجماهير بشكل مباشر. الدولة السورية بقيت فيما يخص القدرة على التحكم الاجتماعي على الحد الأدنى، ضمان الامتثال دون أن تتجاوزه إلى المشاركة والشرعية.

لم تكن للدولة موارد كافية لتحطيم الجماعات الوسيطة وبالتالي ضمان كامل التحكم باستراتيجيات البقاء لسكانها، أيضاً، عانت بشكل منتظم من معضلة الشرعية وعدم قدرتها على احتكار الرأسمال الرمزي، فلم يطرح أي نظام في سوريا تحدي على القوانين الدينية الخاصة بالأحوال الشخصية مثلاً. كذلك ضعف البعد المدني للمجتمع (المجال العام) وطبيعته الفسيفسائية من جهة ولاتوازنه مع قوة مؤسسة الدولة (الجيش أساساً) سمح للعصبيات الأهلية أن تصبح العامل الفاعل في السيطرة على الجيش ولاحقاً على جهاز الدولة بأكمله. وعوضاً عن أن تكون الدولة صورة عن أمة موحدة، أصبحت صورة عن المجتمع المجزأ وأداة من أدوات جماعاته للصراع فيما بينها، وأصبحت قدرة الدولة على إدامة سلطتها لا تقوم على الشرعية، بل على رعاية الحرب الأهلية في المجتمع. فصارت الدولة مجرد عصابة في علاقتها مع مجتمعها.

هذا يحيلنا إلى غياب العملية الثانية (الديمقراطية والشرعية) في عملية بناء الدولة التي أشرنا إليها بداية، والناتجة عن غياب سلطة تشريعية -بقيت هي والسلطة القضائية تابعتان للسلطة التنفيذية- وتفتت المجتمع إلى هويات اثنية مختلفة ليس له القدرة على إنشاء مجال عام مستدام يفسح المجال للمشاركة في السلطة وبناء شبكات الثقة مع الدولة وتشكيل هوية وطنية. إن الاقتصار على مقاربة تستند على القوة والسلطة لن يكفي لشرح مفارقة الدولة في العالم الثالث، وضمناً سوريا، دون الالتفات إلى بناء الشرعية من خلال المشاركة والتمثيل. حدود مقاربة بورديو تظهر هنا، فالدولة بغياب الشرعية ورغم قوتها المفرطة لن تعدو عن أن تكون مجرد عصابة تحكم.

إن الاقتصادر على الديمقراطية والتمثيل في مجتمع مجزأ بدون تفكيك الجماعات الأهلية وإعادة تشكيل سياق الحياة اليومية للأفراد، لن يعني إلا إنتاج سيطرة الجماعة الأهلية الأكبر في مواجهة رفض وممانعة الجماعات الأخرى. بالمقابل فإن الاقتصار على العملية الثانية، سيطرة جهاز الدولة وهيمنته، دون قدر من التمثيلية وما تؤمنه من شرعية مستقلة وخاصة بالدولة، لن يعني سوى أن الدولة تكون مجرد عصابة، تستدعي العصبيات الأهلية مع الحاجة إلى الحفاظ على السلطة وتماسكها.

يمكن فهم جانب من مسألة غياب الشرعية بشكل أفضل بالنظر إلى إشكالية السلطة في التراث الإسلامي. يقدم برتران بادي (بادي 2017) صياغة مثمرة لإشكالية الدولة في الغرب والعالم الإسلامي. ففي العالم الإسلامي لم يحظَ الحيز السياسي باستقلال عن الديني مماثل لذلك الاستقلال الذي تمتع به في الغرب. استقلال سمح بصياغة أسئلة السيادة والشرعية والتمثيل بشكل مستقل بالحيز السياسي. في العالم الإسلامي كانت السلطة (الشوكة) خاضعة للضرورة، أما الشرعية بقيت مرتبطة بالنظام القيمي للشريعة، وعليه فإن السلطة لا تحوز بذاتها على أية شرعية، حيث لا مكان لطرح قضية التمثيل السياسي. هذا ما ترسخ لاحقاً مع الإصلاح الذي بادرت به السلطة السياسية (التنفيذية) انطلاقاً من حاجاتها الخاصة، حيث بقيت مسألة المشاركة مقيدة أو معدومة، إلا في لحظات نادرة. لهذا فإن الثورات والانتفاضات لدينا قامت أساساً بمنازعة الدولة في مسألة السيادة، ولم تدور على مسألة التمثيل السياسي والمشاركة في صنع القرار.

يترافق هذا مع حقيقة أن الانتماء إلى الأمة في العالم الإسلامي لا يحيل إلى جماعة تتماهى مع أرض وتالياً دولة، بل إلى جماعة تعرف نفسها من خلال الانتماء إلى نظام قيمي ومعياري مشترك، يسمح لأناس من أصول مختلفة وعلى مسافات متباعدة بالشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة، في الوقت الذي لا يربط، ربما، هذا النظام القيمي والرمزي بين شخصين يعيشان في مدينة واحدة.

إن ديمومة حركات الإسلام السياسي في كونها المعارضة الأبرز للدولة، برغم كل ما نالها من قمع، تعود إلى تجذر لغتها في تقليد الشرعية والعدالة الخاص بغالبية السوريين وفي واقع حياتهم الاجتماعي، لغة عدالة وشرعية تقف في مواجهة الدولة وليس النظام وحسب. على العكس من لغات معارضة مستمدة من تقاليد مغايرة مثل الماركسية والليبرالية والتي لا تتمتع بأي أساس اجتماعي، بل يمكن للدولة أن تستخدمها لتبرير قمعها لمجتمعها من جهة، كما أنها استُخدمت من قبل الأقليات في مواجهة الغالبية السنية، فالعلمانية في سوريا عموماً لم تُقصد إلا في مواجهة السنة أساساً[

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق