كان يا ما كان ، في قديم الزمان .
كان جالساً في عتمة مغارته ولم يكن قد اكتشف بعد مانسمّيه في أيامنا هذه فضيحة العُرْي ، ولم يكن قد تَهجّى بعد معنى العَيْب ، وكانت كل مقومّات حياته تتلخص بلقمةٍ تقيهِ من وطأة الجوع ، وجرعة ماء ، وهراوة للطوارئ ، وحين خرج إلى الضوء والنور قرر أن يعيش على شجرة ، ويتداوى بالتمرغ في الطين ، وبالتجربة والخطأ وبشيئ من الإلهام اكتشفَ النار ولمس مقدار السحرالمخزون في حجر الصوّان ، وحين بالمصادفة وقع جزء صغير من طرائده في النار ، وشمَّ رائحة الشواء ، تحوَّلَ من فنانٍ متوحشٍ شاردٍ ينام ويمارس الجنس ويرسمُ بلاهاته على جدران كهوف "دورودوني" إلى مجرّد متحضر نذل .
كان جدّنا الإنسان حيواناً نبيلاً لا يعرف الطمع ، ويتوقف عن الصيد حين يشبع ، ويكف عن اشتهاء المرأة العارية الجالسة إلى جواره بمجرد نظرة غاضبة من مالكها الموصوف بأنه "نياندرثال" ، وهذا الأمر موثَّق بالفلم العبقري "حرب النار" . وشيئاً فشيئاً يستر جدّنا عورته ، ويتعلم كيف يزرع وكيف يخبئ غلال الأرض لنفسه ، ويحرم جاره من الغلال حين ينهشه الجوع ، فيضطر الأخير مُرْغماً على تناول وتبادل وجبات القمل المنتشر في رأسه ورؤوس أفراد عائلته ، وفقاً لما كتبه وِلْ ديورانت في "قصة الحضارة" .
كان أجدادنا المتحيونون البدائيون القدماء الأوائل يضعون مرضاهم بعناية في أماكن مكشوفة ، كي يداويهم الذي يستطيع من بين العابرين ، أي أنهم كانوا يعرفون معنى الشفقة ، ويناضلون ضد الألم . لكن هذا الجد الهمجي ، حين ارتقى عقله البدائي قليلاً وتعلم السحر ، اقتضى ذلك منه لإثبات سطوته أن يأكل لحم أخيه ، وعودوا إن شئتم إلى كتاب ليفي بريل "العقلية البدائية" لتتبينوا كيف تحول جدّكم وجدّي من همجي محترم إلى نذل ! واحتاج الأمر فقط إلى حوالي 30 ألف سنة .
الإنسان وحده من بين كل الحيوانات الأخرى يرتقي وينحط . هكذا ينظر أرنولد توينبي للإنسان في كتابه "تاريخ البشرية" ، فهو يرتقي وينحط بالتناوب ، من همجي محترم إلى نذل كما أسلفت ، وفقاً لعوامل التحدي والإرتخاء . تفكير سليم ، ولكنني أضيف إلى الأسباب سبباً مهماً هو موضوع السلالات منذ تلمست في طفولتي صراخ أهل دير الزور وسلالاتهم الخالدة : البكارة ، الخرشان ، البورباح ، المعامرة .
النحل نحل ، والنمل نمل ، والحمير حمير ، والأفيال أفيال ، وكل فرد من هؤلاء لايعي أية فروق أو صفات داخل السلالة ، ووحده الهمجي المحترم تورط وبدأ يعي ويكتشف فروقاً هائلة بين أفراد السلالة الواحدة وفي السلالات السبع وفقاً لتصنيف "تشيبوسكاروف" ، أو الأنماط الـ 48 وفقاً لتصنيف "بوناك" ، وكلما اتسعت قاعدة الإختلافات : لون البشرة ، الأنف ، بروز الفك ، الشفة ، حجاج العين ، ازدادت عدوانيته وتقهقر إلى نذل ! ويأتي الإنثربولوجيون الأوغاد ، وينفتح بمجيئهم جحيم تصنيف الإنسان على مصراعيه ، ولا يبقى الموضوع مقتصراً على النياندرثالي والكرومانيون فحسب ، بل أضيف إليهما : الجاوي ، البولينيزي ، الأسترالي ، الميلانيزي ، التاسماني ، الزنجي ، الأوروبي ، المغولي ، الهندي ... صار الهمجي المحترم نذلاً ، وانحط الهمجي بعد ارتقاء مؤقت بعد تفشّي جائحة الداء السُلالي .
الهمجي المحترم وخلال مليون سنة لم يدخل في حروب إبادة طاحنة لبني جنسِه . حين صار نذلاً ارتكب حروب إبادة ، فأباد الرجل الأبيض كل الهنود الحمر في أمريكا ، وأباد الرجل الأبيض أيضاً الأسترالي القديم ، وصارت الحروب عادة والنذالة خُلقاً .
هكذا صار التاريخ الإنساني تاريخاً لمحطات النذالة ، وتاريخاً لسِيَرِ الأبطال الأنذال : من جنكيز خان إلى نابليون ، ومن الإسكندر المقدوني إلى هتلر ، ومن ماركوس أنطونيوس إلى جورج بوش الإبن . قياصرة وكساسرة وجنرالات . وكلما تناسلت السلالات الكبرى إلى سلالات فرعية أصغر ، وكلما أُضيف إلى الفروع سمات عِرقية وفكرية وعقائدية وطائفية ومذهبية وحزبية استعرت نيران الحروب بين الأنذال .
ـ من أجل تصحيح أوضاع سلالة ذوي البشرة السوداء اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية ، ولعلكم تذكرون الفظائع التي صورتها هوليود في تلك السنوات الغابرة .
ـ في أوروبا ، غاليُّون وفايكينغ وجرمان وسكسون مع قليل من التوابل الكاثوليكية والبروتستانتية ، وعائلات ملكية وكنائس وفقراء ، وكل هذه الخَلْطة محقونة بمصل السلالات ، وبسببها ، اجتاحت أوروبا حروب أهلية وثنائية فتكت بمئات الآلاف .
ـ سلالات فاشية ونازية وشيوعية واشتراكية والمزيد من الحروب النذلة . حروبُ سلالاتٍ آثمةٍ في كوريا واليابان .
ـ سلالتان قبليتان في رواندا مدججتان بالحماقة والغباء ، هما الهيتو والتوتسي ، حيث أقدمت السلالة الأولى على ذبح 800 ألف من السلالة الثانية خلال 100 يوم وبالسواطير المستوردة من الصين ، وتفاصيل الإبادة تجدونها في كتاب فنسان نوزيل "أسرار الرؤساء" .
فماذا يمكننا القول عن سلالة قحطان وعدنان وعن تاريخ "جندب" العربي التليد ؟؟
في أيام الجاهلية المشرقة كنا قبائل كبرى أو"جماجم" معدودات كما تقول العرب : غطفان وكنانة و هوازن و تميم و بكر بن وائل و عبد القيس ومذحج و قضاعة والأزد . بين ثماني وتسع سلالات فقط ، ولذا كانت الغزوات والحروب أقل .
تناسلت وتوالدت وتصالبت وتهاجنت وتراكبت السلالات اليعربية وباضَتْ فانكشف المستور ، وإذا بـ " خير أمة أخرجت للناس" تُشيد صرحاً هائلاً للنذالة ، أي الكل يشن الحرب على الكل في الثلاثين سنة المنصرمة : حروب أهلية متواترة في لبنان والجزائر والصومال والسودان والعراق وليبيا واليمن وسوريا ، وكل سلالة تقاتل أختها ، ولكل سلالة أعلامها وجيناتها ومراجعها وشيوخها وأمراؤها وعقائدها وطوائفها ومساجدها وحسينياتها وكنائسها .
سلالات لا تُعَدّ ولا تحصى . مسلمون ، مسيحيون ، سُنَّة ، شيعة ، علويون حدادون وخياطون ، دروز ، موارنة ، أرمن ، أرثوذوكس ، وهّابيون ، حوثيّون ، أباضيون ، أكراد ، تركمان ، شركس ، أفغان ، شيشان ، كلدان ، علمانيون ، قوميون، اسماعيليون ، ليبراليون ، ديمقراطيون ، بعثيون ، شيوعيون ، أخوان ، ديريون ، حماصنة ، أدالبة ، دوامنة ، حوارنة ، جبهة نصرة ، داعش ، وسرايا وكتائب بالمئات .
سلالات تدين بديانة الأميركان ، وأخرى تلتحق بالركب الروسي ، ومن تنسق مع السعودي ، ومن تحلف بشرف الإيراني ، ومن تتوضأ بـ " إيفيان" الفرنسي ، وواحدة ترطن بالإنكليزية ، والذين على التخوم الشمالية يهزون رؤوسهم ويسبّحون قائلين بالتركية : شيكّوزال ، وإذا انسحبوا قليلا نحو الشرق وإلى رأس العين وقامشلو ردّدوا بالكرديّة : ياخوديه .
بدينكم هل هذه أمّة أم مزاد ؟؟
وإذ تختلط اللغات الصريحة بتقارير الإستخبارات ، والأديان بقناع الهرطقات ، وأولاد الذوات باللقطاء ، والأساتذة بالجلاوذة ، والجهل بالمعرفة ، والوطنية باللصوصيّة، والعهر بالبطولة ، وحيث يحدث ذلك ، يمر الأنذال بسهولة ليشعلوا الفتن . أليس هذا ما يحصل اليوم في الخراب الممتد من دوما إلى دير الزور ؟؟
وحين تذوب معاً كل الأشياء وتتداخل وتتشابك وتتقاطع : المآرب والخوّات والحشيش والسلاح والويسكي والمقالات التي تُنَظّر لمسيرة الحرية والعدالة ، يمكن للنذل أن يتسلل من وراء ظهرك ، ليلقي إكسير نذالته على أشلاء كل "القتلى" في كل الجبهات ومن كل السلالات ، ويضحك في سرّه حين يدفنهم في قبور النسيان ، وبعد المشاركة في طقوس جنازاتهم ، يجتمع النذل مع الأنذال الآخرين بعيداً عن العين ، في ثكنة أو سرداب أو غرفة داخل فندق فخم ذي خمس نجوم (*)، ليقوموا بإحصاء عوائدهم الماليّة ، في الوقت نفسه الذي يسيل فيه دم الأتقياء الشرفاء الأبرياء الذين لاحولَ لهم في لعبة الأقوياء الكبار .
أيها الهمجي المحترم : قف على باب مغارتك المعتمة وابصق على كل تجار الدم الأنذال الذين يديرون رحى حروبنا العبثية في كل مضارب العرب وتحت سقوف خيامهم ، واغسل يديك من نتن السلالات ، واعطني فسحة من الوقت لأشرب فنجان قهوتي ، وأعالج صداع رأسي بحبّة أسبرين ، كي أعود إلى مغارتك التي لاتحمل ولو نجمة (*) واحدة ، لعلّني أنام نومة أهل الكهف على مقربة منك ، وأحلم بسقوط السلالات جميعاً ، وأحلم أيضاً بكنس النذل المتشبّث بأذيالي !!!
الكويت 15/5/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق