الثلاثاء، 11 يونيو 2024

خُذِ الأمورَ بالعقيدةِ تهون، يوم سَعْدِ الحُرِّ حين يغتسلُ بدمه!مقارنه بين شهداء غزه وشهداء أُحد

خُذِ الأمورَ بالعقيدةِ تهون، تخيَّلْ شُهداء غزوة أُحد، حمزة قد بُقِرَ بطنه، ومُثِّلَ به، وها هو مطروحٌ على الأرضِ وقد غطَّى التُّرابُ وجهه، يا له من مشهدٍ أليمٍ لو رأيته هكذا معزولاً عن الحكاية كلّها!
ولكنَّكَ الآن تعرفُ أنّه سيّد الشهداء، وأنه لو قيلَ له في ذلك اليوم: أَتُحِبُّ أن ترجعَ إلى الدُّنيا؟!
لقال: وما يفعلُ المرءُ في الدُّنيا وقد حطَّ رحاله في الجنَّةِ أخيراً؟!

تخيَّلْ فتى قُريشٍ الوسيم المدلَّل مصعب بن عمير، ذاكَ الذي كانت ثيابه تُغسلُ بماءِ الورد، ويُجلَبُ له الطِّيبُ من شتّى أصقاع الأرض، فإنَّ مُرَّ في الطريقِ بعدَ مروره منها يُقال: مرَّ من هنا مصعب!
ها قد انتهى به المطافُ صريعاً على الأرض، قُطعَ ذراعاه اللذان كان يحملُ بهما اللواء، والنَّبيُّ ﷺ ينظرُ إليه فيذرفُ دمعاً عليه ويقولُ: كنتُ أعرفه، كان ألينَ فتى في قريش!
ولم يجدوا له كفناً يستره في ذاك اليوم!
وإنَّكَ لو قرأتَ هذه الصّفحة من كتاب حياة مصعب فقط لربما قُلتَ: يا للنهاية البائسة!
ولكنَّكَ اليومَ تعرِفُ مضمون الكتاب كلّه، وتعرفُ أنَّ ذاك اليوم كان أسعد أيام مصعب بن عُميرٍ!

وإنَّكَ لو رأيتَ اللحظةَ التي أُضرمتْ فيها نار الأخدود، وبدأ الملكُ الظالم وجنوده يُلقون المؤمنين، لرُبَّما قُلتَ، جهلاً بما غابَ عنك من الحكاية، : يا له من مَلِكٍ منتصرٍ قضى على خصومه في يومٍ واحد! ويا لهؤلاء البائسين كيف كانت نهايتهم!
ولكنَّكَ الآن تعرفُ الحكاية كلّها من أَلِفِهَا إلى يائها، تعرفُ وتُؤمنُ أن المرءَ يمكنُ أن يخرجَ من الدُّنيا منتصراً ولو خرجَ مقتولاً، وأنَّ المرء، كذلكَ، يمكنه أن يخرجَ من الدُّنيا مهزوماً ولو استطاع أن يذبحَ خصمه! أنتَ تعرفُ هذا جيِّداً، تعرفُ أنَّ أصحاب الأخدود في الجنَّة خالدين فيها أبداً، وتعرفُ أن الملكَ الظالم قد هُزم!
فقِسْ على ما مضى!

وإنَّكَ لو ولجتَ غُرفةَ تعذيب فرعون في اللحظة التي اطمأنَّ فيها أنَّ الزيتَ قد غَلَى بما يكفي ليذيبَ اللحمَ عن العظمِ، وبدأ يُلقي أولاد الماشطة واحداً إِثْرَ واحدٍ، فما تلبثُ أن تطفو عظامهم، والماشطةُ ترقبُهم دون أن تنبسَ ببنتِ شَفةٍ، غير جملتها الخالدة: ربي وربُّكَ الله! لقلتَ، جهلاً بما قد سلفَ: يا لقساوة هذه الأم!
ولكنَّكَ سُرعان ما سترى أنَّ دورها قد حان، وأنها لن تطلبَ من فرعون إلا طلباً أخيراً، اِجمعْ عِظامي وعظامَ أولادي وادفنّا في قبرٍ واحدٍ!
ستقولُ، وقد غابتْ عنك مطالع الحكاية، وما وقفتَ على القصيد مُذ أوَّل الطَّللِ: أما كان بإمكانها أن تُبقي على نفسها وأولادها!
ولكنّكَ الآنَ، الآنَ تحديداً، تعرفُ الحكايةَ كلّها، تعرفُ أنّ ماشطةً قد أذلَّتْ كبرياءَ مَلِكٍ كان يقولُ أنا ربكم الأعلى!
الآن أنتَ تعرفُ أنَّ النَّبي ﷺ قد شمَّ رائحتها ورائحة أولادها في السَّماء كالمسكِ ليلة عُرِجَ به إليها!

الآن، والآن فقط، أنتَ تعلمُ أن بعض القتلة مهزومون على أيدي ضحاياهم، فإنَّ النَّصرَ ليس في البقاء على قيد الحياة، وإنما في الثبات على العقيدة والمبدأ!
ولكَ أن تتخيَّلَ فقط أن نبيَّ اللهِ زكريا قد نُشرَ بالمنشار، وأنَّ رأس السَّيِّدِ الحَصُورِ يحيى قد قُدِّمَ مهراً لبغيٍّ!

أمَّا الآن وقد أُسدِلتِ السِّتارة، وانفضَّ الجمعُ فاسمعها منِّي: حتى وإنْ تمزّقتِ الأجسادُ، فالأرواحُ في أجواف طيرٍ خُضرٍ، تسرحُ في الجنّةِ حيث شاءتْ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش! فلا تبكِ عليهم، ابكِ على نفسكَ، ما يريدُ الشَّهيدُ السَّاجدُ من دُنيايَ ودُنياكَ؟
ولأيِّ شيءٍ ترجعُ امرأةٌ كان آخر عهدها بالدُّنيا أنَّها نامت بثوب صلاتها كي لا تظهر عورتها إذا ما انتشلوها من تحت الأنقاض؟!
وما الجميلُ في دُنيايَ ودُنياكَ حتى يتركَ أطفال غزَّة إبراهيم عليه السّلام وسارة ويرجعون إليها؟!
لا تبكِ عليهم يا صاحبي، ابكِ على نفسكَ، فإنَّه لو قيل الآن لشهداء قوّات النُّخبة يوم العبور المجيد تمنُّوا، لقالوا: اللهُمَّ عُبوراً كلَّ يومٍ، وشهادةً كلَّ يوم، فإنما يوم سَعْدِ الحُرِّ حين يغتسلُ بدمه!

أدهم شرقاوي / مدونة العرب

مقال من الأرشيف لإدوارد سعيد عن نجيب محفوظ:

مقال من الأرشيف لإدوارد سعيد عن نجيب محفوظ:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قسوة الذاكرة
* إدوارد سعيد
#ترجمة ولاء فتحي، مجلة العربي عدد 577 ديسمبر 2006
تقديم: قسوة الذاكرة وبراعة الحكي
نص ادوارد سعيد حول نجيب محفوظ مادة غنية للتعريف ولتثمين تجربة واسعة في الكتابة والحياة والنشر. يقدم الكاتب صورا أساسية تسم تجربة نجيب محفوظ الحافلة أهمها توفره على خصائص القدرة الفائقة على الحكي والحرفية والاطلاع الغزير على الفلسفة والمعرفة والتاريخ. مصر في متن نجيب محفوظ هي الحارة والتاريخ والصراع والتطور وحركة الإنسان. وقد حلل إدوارد سعيد هذه القضايا من خلال الوقوف عند النصوص الأساسية التي كتبها نجيب محفوظ في المرحلتين الواقعية والرمزية. كان إدوارد بارعا في وصفه لأنه ارتدى ثوب الأديب الشغوف الذي يحتفي بتجربة استثنائية محللا ومنصتا دون اللجوء إلى ثقل المصطلح ودون رغبة في التعتيم أو المبالغة. نص ممتع وعميق. يستحق القراءة.
نص المقال:
قبل فوزه بجائزة نوبل العام 1988 كان «نجيب محفوظ» معروفاً خارج العالم العربي على نطاق واسع بالنسبة لطلبة الدراسات العربية، ودراسات الشرق الأوسط، باعتباره مؤلفاً لقصص بديعة عن حياة الشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى في القاهرة.
في العام 1980 حاولت أن أثير اهتمام ناشر نيويوركي، كان يبحث عن كتب خاصة بالعالم الثالث كي يقوم بنشرها، لإصدار الأعمال العظيمة للكتّاب العرب في ترجمة من الدرجة الأولى، ولكن بعد قليل من التفكير تم رفض الفكرة. وعندما تساءلت عن السبب أُخبرت – دون أن أكتشف أي سخرية مبطنة – بأن اللغة العربية لغة مثيرة للجدل.
وبعد عدة سنوات أجريت مراسلات طيبة – ومن وجهة نظري مشجعة أيضًا – مع جاكلين أوناسيس، التي كانت تحاول أن تقرر ما إذا كانت سوف تضطلع بهذه المهمة أم لا، ثم أصبحت بعد ذلك واحدة من المسئولين عن وصول أعمال نجيب محفوظ إلى دار نشر «دبلداي»، حيث توجد ترجمات لأعماله الآن، وإن تكن لا تزال في طبعات غير منتظمة إلى حد ما، تنتشر هنا وهناك دون أن تثير الكثير من الضجة أو الاهتمام.
أما حقوق ترجمة أعماله إلى اللغة الإنجليزية فهي محفوظة للجامعة الأمريكية في القاهرة، والتي يبدو أنه باعها لها بسعر زهيد، دون أن يتوقع أنه سوف يأتي يوم يصبح فيه مؤلفًا معروفًا على مستوى العالم، وليس لديه ما يقوله حول هذه الترجمات، التي أصبحت بشكل واضح غير أدبية، ومشاريع تجارية على نطاق واسع، وتفتقد الكثير من التماسك الفني أو اللغوى.
أما بالنسبة لقراء العربية فلمحفوظ في الحقيقة صوت مميز، يبرز براعة لغوية فائقة وجديرة بالملاحظة، لم تسترع الانتباه الكافي حتى الآن.
سوف أحاول فيما يلي توضيح أن لدى محفوظ رؤية شاملة مقررة سلفاً، وإلى حد ما متكبرة، لبلاده، ومثل إمبراطور يعاين مملكته يشعر بقدرته على التلخيص، وعلى الحكم وعلى تشكيل تاريخها الطويل، وموقعها المعقد، باعتبارها واحدة من أقدم الجوائز في العالم، وأكثرها فتنة ومطمعًا، لغزاة مثل الإسكندر، وقيصر، ونابليون، كما هي أيضًا بالنسبة لأبنائها.
يضاف إلى ذلك أن محفوظ يمتلك الوسائل الأدبية والفكرية كي ينقل كل ذلك بأسلوب خاص به تمامًا.. مفعم بالقوة والدقة والصراحة.
تدفق سردي
ومثل شخصياته، التي يتم التعرف عليها دائمًا فور ظهورها، يصل إليك محفوظ مباشرة، يغمرك في تدفق سردي كثيف، ثم يتركك تسبح فيه وحدك طوال العمل موجهًا تيارات، ودوامات، وأمواج حيوات شخصياته، وتاريخ مصر تحت حكم رؤساء وزارات مثل سعد زغلول ومصطفي النحاس، وعشرات من التفاصيل الأخرى حول الأحزاب السياسية، والحكايات العائلية، وما إلى ذلك بمهارة استثنائية.
واقعية؟ نعم، لكن يضاف إليها شيء آخر هو بصيرة ترتفع إلى ضرب من الرؤية الكلية الجامعة، لا تختلف عن رؤية دانتي في مزاوجته بين الحقيقة الدنيوية والأبدية، ولكن من دون البعد المسيحي.
ولد نجيب محفوظ العام 1911، وفيما بين عامي 1939 و 1944 قام بنشر ثلاث روايات – لم تكن قد ترجمت بعد – عن مصر القديمة، بينما كان لا يزال موظفًا في وزارة الأوقاف.
كذلك قام محفوظ بترجمة كتاب جيمس بيكي عن مصر القديمة، كل ذلك قبل أن يتعهد مشروعه التأريخي للقاهرة الحديثة بدءاً من خان الخليلي، التي ظهرت العام 1945، وبلغت هذه المرحلة ذروتها العام 1956، و1957 بظهور عمله الرائع الثلاثية
كانت هذه الروايات في الحقيقة ملخصًا لحياة مصر الحديثة، أثناء النصف الأول من القرن العشرين.
الثلاثية ودراسة الأجيال
والثلاثية هي تاريخ رب الأسرة «السيد أحمد عبد الجواد»، وأسرته عبر ثلاثة أجيال. وبينما تمدنا بمقدار هائل من التفاصيل السياسية والاجتماعية، تعتبر الثلاثية أيضًا دراسة للعلاقات الحميمة بين الرجال والنساء، وأيضًا حكاية بحث كمال الابن الأصغر «لعبد الجواد» عن الخلاص، بعد مناصرته المبكرة والقصيرة لقضية الإسلام.
وبعد فترة صمت تزامنت مع السنوات الخمس الأولى التي تلت الثورة المصرية العام 1952، بدأت أعمال محفوظ النثرية تتدفق بتعاقب متواصل. روايات، وقصص قصيرة، وصحافة، ومذكرات، ومقالات، وسيناريوهات.
ومنذ محاولاته الأولى لتصوير العالم القديم أصبح نجيب محفوظ كاتبًا استثنائيًا غزير الإنتاج، وأحد المرتبطين بحميمية بتاريخ عصره، ومع ذلك كان مصممًا على استكشاف مصر القديمة مرة أخرى، لأن تاريخها سمح له بأن يكتشف هناك ملامح عصره، منعكسة ومقطرة، كي تلائم بالأحرى غايات معقدة تخصه هو.
وعلى ما أظن فإن ذلك هو جوهر روايته العائش في الحقيقة التي كتبها العام 1985، وترجمت إلى الإنجليزية العام 1988 تحت عنوان أخناتون، العائش في الحقيقة التي تعتبر بطريقتها غير المُدَّعية جزءًا من الاهتمام الخاص لدى محفوظ بالسلطة، والصراع بين المتدين التقليدي والحقيقة الشخصية، بكل ما في الكلمة من معان، وبالتباين بين وجهات النظر المتناغمة بشكل غريب على الرغم من التناقض البالغ بينها، والمستمدة من شخص رمزي غامض وملتبس في الغالب.
وُصف محفوظ بخصائص مميزة منذ أن أصبح شخصية شهيرة عالمياً، فهو واقعي اجتماعي كغيره من الواقعيين الاجتماعيين أمثال بلزاك، وجالسوارثي وزولا، أو هو خرافي صاعد من ألف ليلة وليلة (من وجهة نظر كوتيزي المخيبة للآمال). ولكن الأقرب للحقيقة أن نراه كما اقترح الروائي اللبناني إلياس خوري باعتباره يزودنا في رواياته بنوع من تاريخ شكل الرواية، فمن حكاية الخيال التاريخي إلى الحكاية الرومانسية والسيرة والحكايات المرحة عن الصعاليك، تبعتها أساليب واقعية، وعصرية، وطبيعية، ورمزية، وعبثية.
علاوة على ذلك فإن محفوظ، على الرغم من أسلوبه الصريح، يعتبر حاذقًا إلى حد بعيد، ليس فقط لكونه صاحب أسلوب أدبي عربي مميز، ولكن أيضًا بصفته دارسًا مجتهدًا للمسار الاجتماعي ونظرية المعرفة- هذه هي الطريقة التي يرسخ بها الناس خبراتهم – دون أن يكون لذلك نظير في هذا الجزء من عالمه، وربما في أي مكان آخر. والروايات الواقعية، التي قامت عليها شهرته، والبعيدة تمامًا عن أن تكون مجرد مرآة سوسيولوجية مبعثها الإحساس بالواجب تجاه مصر المعاصرة، تعتبر أيضًا محاولات جريئة للكشف عن الطريقة بالغة القسوة التي تُستخدم بها السلطة في الواقع. وتلك السلطة قد تنشأ مما هو مقدس أو من الجمعيات المدنية مثل الأحزاب السياسية، والجامعات، والبيروقراطية الحكومية… الخ. وليس المقصود هنا أن روايات محفوظ موجهة بواسطة مبادئ تجريدية أو تنتظم حول هذه المبادئ، فهي ليست كذلك وإلا لكانت أعماله أقل قوة وإمتاعًا لهذا العدد، الذي لا يحصى من قرّائه العرب، بالإضافة لجمهوره الواسع الآن على مستوى العالم.
المطلق والتاريخ
وفى ملحمة الحرافيش العام 1977 تم توسيع وتعميق موضوع أولاد الجبلاوي. ومكنه استخدامه الدقيق للغة من أن يترجم المطلق إلى تاريخ، وشخصيات، وأحداث، وتسلسل زمني ومكاني، بينما يحافظ، في الوقت نفسه – لأن هذا هو المبدأ الأول للأشياء، بشكل غامض – على استعصاء المطلق، وأصالته، وربما أيضاً تباعده المعَذِّب.
وفي أخناتون يغير إله الشمس إلى الأبد الملك الصغير الموحِد قبل الأوان، لكنه لا يكشف عن نفسه أبدًا، مثل أخناتون نفسه، الذي تتم رؤيته متنقلاً، موصوفًا من خلال قصص متعددة لأعدائه، وأصدقائه، وزوجته، التي روت قصته لكنها لم تستطع أن تحل غموض شخصيته.
وعلى الرغم من ذلك فإن لمحفوظ جانبًا دنيويًا بشدة، لكنه ممزق بين ذكريات، بل وحتى مفاهيم حول قوة محيرة عظيمة تبدو مقلقة له إلى حد كبير. لننظر مثلاً إلى قصة أخناتون التي تتطلب، ليس أقل من أربعة عشر حكاء، وتظل عاجزة عن حسم التأويلات المتعارضة لعهده.
وفي كل عمل أعرفه من أعمال محفوظ نجد هذا التجسيد المركزي، النائي في الوقت نفسه، للسلطة، والأكثر جدارة بالتذكر هو تلك الشخصية المسيطرة والأعلى مقاماً للسيد أحمد عبدالجواد في الثلاثية، فحضوره الاستبدادي يخيم على الأحداث في كل الثلاثية. وتراجعه البطيء عن عليائه لا يمكن أن يكون ببساطة خارج الأحداث، لكنه أيضًا تراجع تم تحويل طبيعته والإقلال من قيمته من خلال أعمال عادية، مثل زواج عبدالجواد، وسلوكه المستهتر، وأبنائه، وتغير التوجهات السياسية.
ويبدو أن الأمور الدنيوية تربك محفوظ، بل قد تسيطر عليه وتفتنه أيضاً في الوقت نفسه، خاصة في وصفه لطريقة تلاشى تراث السيد أحمد عبد الجواد، الذي كانت عائلته الموضوع الفعلي لدى محفوظ، ذلك التراث الذي ظل حتى النهاية يتولى جمع شمل الأجيال الثلاثة معًا خلال ثورة 1919، والعهد الليبرالي لسعد زغلول، والاحتلال البريطاني، وفترة حكم فؤاد.
والنتيجة أنك عندما تصل إلى النهاية في إحدى روايات نجيب محفوظ سوف تجرب بصورة متناقضة كلاً من: الأسف على ما حدث لشخصياته أثناء تطورها الطويل المتحدر، وأمل واضح بالكاد في أنه بالرجوع إلى بداية القصص، ربما تكون قادراً على التعويض عن قوة الانحراف لدى هؤلاء الناس. وهناك تلميح بأن التحكم في هذا المسار موجود في قطعة منفصلة تسمى «رسالة» متضمنة في عمله أصداء السيرة الذاتية العام 1994: «تُظهر قسوة الذاكرة نفسها في تذكر ما تشتت في كثرة النسيان». محفوظ غير باحث عن الخلاص لكنه مدون دقيق، وذو بصيرة حادة لمرور الزمن.
رفض الاستسلام
لذلك فإن محفوظ يمكن أن يكون أي شيء غير أن يكون قاصًا متواضع الحال، يلازم مقاهي القاهرة مواصلاً العمل بهدوء في ركنه المنعزل البعيد. المثابرة والاعتداد بالنفس اللذان لازما صرامة عمله لمدة نصف قرن، ورفضه الاستسلام للضعف العادي، هي جوهر ما قام به ككاتب. وأكثر ما مكنه من التمسك بوجهة نظره الدائمة بدرجة مدهشة حول طريقة ترابط الأبدي والمؤقت بهذا القدر من الحميمية، هي بلده، مصر نفسها. وكمكان جغرافي وتاريخ، ليس لمصر بالنسبة لمحفوظ نظير في أي مكان آخر من العالم.فهي قديمة تمتد إلى ما وراء التاريخ، متميزة جغرافيًا بسبب النيل وواديها الخصيب، مصر محفوظ هي تراكم هائل من التاريخ تمتد جذروها لآلاف السنين، وعلى الرغم من التنوع المدهش لحكامها وأنظمتها، ودياناتها، وأعراقها فإنها تحتفظ بهوية متماسكة تخصها. ويضاف إلى ذلك أن لمصر موقعًا فريدًا بين الأمم، ولأنها محط اهتمام الفاتحين، والمغامرين، والرسامين والكتاب، والعلماء، والسياح، فهي بلد لا تشبه بلدًا آخر لمكانتها فى التاريخ البشرى، والمنظور شبه الأبدي الذي تتيحه.
إن تناول التاريخ ليس فقط على نحو جدِّي، ولكن أيضًا بحَرفية هو الانجاز الرئيسي لعمل محفوظ، كما هو الحال مع تولستوي أو سولجنيتسين. ويحصل الكاتب على مستوى شخصيته الأدبية عن طريق الجرأة فقط، أو حتى التكبر المتفوق لمجال إدراكه. ولصياغة المسارات الطويلة للتاريخ المصري لصالح هذا التاريخ القصصي، ولكي يشعر الكاتب نفسه بأنه قادر على عرض مواطنيه للتدقيق باعتباره من ممثليهم، هذا هو الطموح الذي نادرًا ما يوجَد لدى الكتّاب المعاصرين.
محفوظ مصر هو شخص مشحون، مفعم بحيوية تثير الانتباه للدقة والدعابة التي يُظهر بها هذه الحيوية، بأسلوب لا يتبناه بالكامل الأبطال العظام، ولا يمكن أداؤه دون بعض من الحلم بالانسجام الكامل، الذي سعى إليه أخناتون يائسًا لكي يحافظ عليه، لكنه لم يتحمله.
ومن دون مركز سيطرة قوي قد تنتهي مصر بسهولة إلى فوضى سياسية أو حكومة استبدادية عبثية بلا مبرر تعتمد على التأويلات الدينية أو على دكتاتورية فرد.الآن بلغ محفوظ التسعين عامًا، لا يبصر تقريبًا، وبعد تعرضه لاعتداء جسماني من قبل متعصبين دينيين العام 1994 يُقال إنه اعتكف. وما هو لافت للنظر ومؤلم في الوقت نفسه فيما يخصه، هو كيف يبدو عليه، مع اتساع رؤيته وعمله، إنه لا يزال يحافظ على إيمانه الليبرالي المنتمي للقرن التاسع عشر، بمجتمع إنساني لائق لمصر، حتى وإن كانت الشواهد التي ظل يستخرجها ويكتب عنها في الحياة اليومية والتاريخ مازالت تدحض هذا الإيمان. والمفارقة أنه أكثر من أي كاتب آخر قد عبر بشكل درامي في عمله عن النزاع الكوني تقريبًا في أنه يرى مصر تدمج بين المطلقات المهيبة من جانب، ومن جانب آخر تآكل وتقويض هذه المطلقات عن طريق الناس، والتاريخ، والمجتمع.
وفي الواقع لم يجر محفوظ أبدًا صلحًا بين هذين المتناقضين، ومع ذلك فإنه كمواطن يرى الدماثة واستمرار تخطي الحدود القومية، والبقاء لوقت طويل، والشخصية المصرية في عمله على أنها قد تنجو من مسارات الضعف الناجمة عن الصراع والانحطاط التاريخي، التي صورها بقوة أكثر من أي كاتب آخر قرأت له.

الأحد، 2 يونيو 2024

تأملات في النزاع العربي الصهيوني

تأملات في النزاع العربي الصهيوني[ ١ ]

ليسقط القلب الذي لا يوظف العقل لتحويل بكائياته إلى
فعل مقاومة ايجابي
لتحترق اقلامنا، إذا كانت ستكتفي بغنوة «أوف، امام الجسد الفلسطيني النازف كجسد المسيح مهما كان
الصوت جميلا والغناء رخيماً.

الإعلام العربي في الغرب لا يزال أسوا محامٍ لأعدل قضية
لا يفيدنا كثيرا أن تشتري الاموال العربية برج ايفل والامباير ستيت والموناليزا ونوادي الكره
اشتروا لنا قناة في تلفزيون غربي.. القناة نفسها التي
تبث منها اسرائيل دعاياتها
ايتها الأموال العربية كم من الجرائم ترتكب بإسمك ؟
ايتها الأموال العربية كفّري عن خطاياك..
ايتها الأموال
العربية حوّلي معزوفاتنا المنفردة إلى فرقة سيمفونية تروي للعالم حقيقة ما يدور، وتكسر طوق التعليم الإعلامي الذي تتقنه اسرائيل فقد تعبنا من مواقفنا الخنسائية، من قضايا الوطنية
وتعبت منا فلسطين
تعبنا من الولاء العشائري الذي يطغى على الولاء الفكري
أليس من المفروض أن يكون ولاء العاقل هو للحقيقة وللعدالة..
لكل ما هو إنساني في هذه الحياة..
هل الشخصية الاسرائيلية تشبهنا في هذا النوع من الولاء ؟ الفرق بيننا
وبينهم أننا عشائر مختلفة، وأنهم يعتبرون أنفسهم عشيرة واحدة
اما وجه التشابه فهوأن الشخصية اليهودية لا تزال بدائيةالولاء والانتماءات حتى لدى مفكريها وفنانيها، فمجيء فنانين من أصل يهودي إلى اسرائيل للرقص في وليمةبعد العدوان هو إدانة إضافية للشعب هناك وإثبات أن العشائرية
لا العقل تتحكم في سلوك حتى فنانيه ومبدعيه.. مبدعون؟ عفواً للكلمة فالإبداع سلوكية كونية إنسانيةراقية

فإذا كانت هذه حال مبدعيها، فعلى أي درجة من التخلف العشائري نجد بقية أفرادها ؟! إن تيه بني اسرائيل الذين
يضربون في الأرض ينبع من داخلهم من حسهم الموهوم بالتفوق إلى حد ولائهم لشهواتهم، بدلاً من ولائهم للإنسانيةوالعدالة

ولن يكون هناك سلام لا لهم ولا لنا قبل أن يطوّروا حسّهم
الإنساني بقدر ما طوروا حسهم التجاري..
في حزيران اعتنقنا الحزن
في : تشرين اعتنقنا الفرح فمتى نعتنق الحقيقة ؟!
حقيقة ماترمي إليه حرب غزه..
أرسطو قال الجاهل يؤكد العالم يشك والعاقل يتروى متی نتروى في الحزن والفرح؟
المدهش أن يكون لإسرائيل عيد واحد يدعى عيد الغفران فحينما ينزلق في عيوننا شريط إنتهاكات اسرائيل للشرائع الإنسانية والأخلاقية وعندما تأتي الغاشية الواقعه ستعرض يومها مااقترفته أيديها وستشعر أنه كان عليها تكريس كل أعوامها بعد مااقترفته من جرائم، للصلاة من أجل الغفران.
حين يقول حاخامات اسرائيل أن الهجوم العربي الصاعق في 1 تشرين لم يراع التقاليد الأخلاقية تجهش ضحكاً، لأنك بحاجة الى الإنفجار في الضحك والغضب معاً تماماً كما تشعر أمام غانية تحاضر عن الفضيلة في جمعية الدفاع عن مكارم الأخلاق
كان يوم ٦ تشرين عيد الغفران الإسرائيلي، فصار يوم ٧ تشرين
عيد الغفران العربي انه عيد غفراننا لأنفسنا خطيئة ما بعد ، حزيران وعيد غفران التاريخ لنا.
لقد سقطنا بعد هزيمة حزيران في هوة الحزن واليأس والعار وحملنا الهزيمة مثل حجر القبر فوق صدورنا.. رزحنا تحت وطأة الشعور بالذنب وكما يقول الدكتور يوسف ادريس في البداية كنت مثل أغلب زملائي شديد القهر للنفس والتبكيت والمعاتبة والإحساس انني أحد أسباب الهزيمة، ثم بدأت اكتشف أن الهزيمة الحقيقية هي أن نقف هذا الموقف المكسور. لا شيء أكثر مهانة من الصفعة التي لاترد والجرح الذي تتستر الضحية عليه أكثر من تستر القاتل، والعار الذي
تسدل الأمة عليه ستائر النسيان.
انتابتنا حالة من الحذر، حالة من التسمم بالسلم المفروض علينا بالقوة من قبل إسرائيل وأميركا تسمم بطيئ ولكن مستمر مثل تسمم الأسر الفقيرة بوعاء الجمر الذي لم يشتعل جيدا، فأطلق غازاته القاتلة ومات أهل الدار وهم نيام من دون أن يدروا ماذا حل بهم؟
لقد ألفنا الهزيمة الذاكرة الوطنية تخدرت اليوم وألِفت المهانة وصرنا نستمع إلى الحوار عن التطبع والصلح ونقرأ عنه بلا مبالاة كأننا نقرأ نشرة جوية عن حالة الطقس.
لقد صدقنا الأكذوبة الصهيونية حول السوبرمان الاسرائيلي والتي تنص بنودها على أن الإسرائيلي يُجرح، لكنه لا يُقتل وأن حرب الإبادة التي يشنونها ضد الفلسطينيين لن تكبدهم من القتلى أكثر من قتلى الـ «ويك إند بحوادث
السير خلال سنه.
(يتبع)
_____________
_تأملات في النزاع العربي - الصهيوني [ ٢ ]

ليس بين شعوب الأرض كلها على طول تاريخها، من دخل حرباً وهو على هذه الدرجة من الغرور مثل اليهود حتى أن غسل الدماغ الجماعي جعلهم يتوهمون أنهم أفراد يستعصون على القتل..
الغريب أنه حتى الإغريق في أساطيرهم الحربية منذ ٣ آلاف عام التي كان يشترك فيها جوبيتر وغيره
من أرباب الأولمب كانوا يسمحون لأولادهم الهابطين من جبال الأولمب أن
يُقتلوا في الحرب بأيدي أعدائهم..
الواقع أن البطل اليهودي في قصص التوراة يتمتع دائما بالقوة الخارقة
والبطولة التي لم تنتكس لحظة واحدة، وحيث انه متميزومتفوق فإن ذلك يمنحه عذراً لقتل بقية البشر أو إبادتهم أو على الأقل ممارسة الخداع
المالي معهم ثم أن هذا الحس الموهوم بالفطرة كان دوماً من جهة أخرى (سلاح الإنعزال اليهودي والمتراس الذي من ورائه رفض معظم اليهود مبدأ الاندماج بالشعوب الأخرى)..
إن ظاهرة جنون العظمة أي (البارانويا) قد تصاعدت إلى ما يلفت النظر في الكتابات والنظريات اليهودية منذ نصرهم في
٥ حزيران ٦٧..
من هنا كانت الحرب السريعة الخاطفة هي المفضلةلإسرائيل  لا لأسباب اقتصادية
وعسكرية فحسب بل لأسباب نفسية وسيكولوجية تتعلق بطبيعة الشعب الإسرائيلي والوهم الكبير الذي يعيش فيه. ومن هنا كانت الحرب طويلة الأمد للعرب محتومة
وضرورية وبمنزلة العلاج الوحيد لبقية الأسرة الصهيونية من جنون العظمة ووهم الخلود والظن بأن أولاد إسرائيل من نسل (أكيليس) (اخيلوس) البطل الإغريقي الأسطوري الذي غمسته أمه يوم ولد في دنّ خمره كي تمنحه الخلود ولكن كعبه الذي أمسكته به وهي
تغطسه في الدن لم تمسه الخمره المقدسه لذا كان مستعصياً على القتل إلا إذا أصابه سهم في كعبه ..حتى أكيليس هذا سمحت الأساطير بأن يقتل ذات يوم .فهل تُعلّم الحرب الشعبَ الإسرائيلي بأن كل من يَقتل يُقتل هو أيضاً حتى لو كان بطلاً توراتياً؟
وهل تجعلهم الويلات.. ويلات الحرب المحتومة يعون إنسانيتهم المنسية ويتفهمون أن ما حدث في عام ١٩٦٧ مع العرب كان مصادفة لا قاعدة وأنه كان تقاعساً عربياً  أكثر منه عبقرية إسرائيلية وأن من يحارب يجب أن يتفهم سلفاً إمكانية سقوط عدد كبير من الأحياء قتلى؟
ندابات إسرائيل لم يبكين أبناءهن في أكتوبر ١٩٧٣، والآن ومنذ  ٧ أكتوبر حتى الآن، وإنما بَكيْن البطل التلمودي الذي لايقهر  ولكنه قد قُهر ..بَكَيْن الحلم لا الرجل ..
بكين الوهم لا  الأسطورة وركعن أمام قبرالتعويذة لا قبر الولد فحسب..
ويبقى من ناحية أخرى، أن علينا نحن العرب لكي نقابل هذه المبادئ العنصرية التي تعتمد على العبرية في رسم سياستها، أن نتسلح حكومة
وشعبا، بشيء اسمه الوعي القومي والوعي الإسلامي وأن تكون هناك ثقة متبادلة بين الطرفين الحاكم والمحكوم..
يذكرني ذلك بخبر تناقلته وكالات الأنباء العالمية لطرافته المذاع من راديو براغ القومية  نص بيان وقعه مجرمو تشيكوسلوفاكيا والخارجون على القانون فيها
من قطاع طرق ومزورين وأشقياء، وأعلنوا فيه الكف تماما عن ممارسة نشاطهم والإقلاع عن انتهاك حرمة أي قانون ريثما تعود الحياة الطبيعية إلى البلاد وتتجاوز أمتهم الأزمة التي تهدد كيانها وأن نقابتهم اتخذت هذا القرار مؤازرة منها للسلطات كي تتيح لقوى الأمن فرصة التفرغ لمواجهة الأزمه السياسيه التي تمر بها بلادهم في مرحلة انتقالهم من الديكتاتوريه (الإشتراكيه) إلى الديموقراطيه الشعبيه.. هذا البيان الذي تذوقت الصحافه الأجنبية حلو طرافته وتسابقت على نشره لايتذوق العربي منه سوى مرارته.
بيانهم يذكرنا بأننا نعيش في عصر بلغ فيه الرقي الإنساني ببعض الشعوب حد وعي المجرمين لمسئولياتهم القوميه، ذلك الوعي الذي يبدل
الخارجين عن القانون والسلطه إلى ملتزمين بالقانون والسلطه حين تمر بلادهم بأحداث خطيره..
الخبر يفتح أكثر من جرح عربي في أكثر من قطر. السلطات بحق شعوبها.
إنه يذكرنا بنوع آخر من الإجرام نجده في أكثر من قطر عربي، وهو إجرام السلطات بحق شعوبها..
لدينا مأساة مئات الآلاف من الخارجين على القانون في البلاد العربية من دون أن يكونوا بالضرورة من المجرمين بل هم غالباً من المحتجين على إجرام السلطات بحقهم. إنهم ليسوا فئة الخارجين على القانون وإنما فئة الخارجين على خروج السلطات على الدستور والقانون وعلى المسؤولية الدينية والقومية الملقاة على عاتقها وقصورها
عن تحقيق أماني شعوبها القوميه وتشليحها لهم، وبالتالي حرمانهم انسانيتهم وكرامتهم وحتى لقمتهم..
وبعد فإن هذا
البيان الطريف لندرته يلخص بعفوية متناهية الشيءالأساسي الذي تفتقر إليه العلاقه بين المواطن العربي وبعض سلطاته الحاكمه والمسئوله ..ألا وهو كما فسرت (الوعي والثقه)
اللبان هما وجهان لحقيقه واحده ..
حقيقه واحده اسمها النصر ..
فعلام كانت الدهشة حين هزمنا؟!..