د. نزار العاني
تقديم :
بدأتُ الكتابة والنشر في جريدة الثورة السورية وأنا في مطالع العشرين من العمر ، دون واسطة ،إذ كنت أتهيّب الدخول إلى جريدة يدير ملحقها أدونيس وياسين رفاعية وشوقي بغدادي ومعين بسيسو و كمال أبو ديب لأتوسط لكلماتي فرصة المرور، وذلك لخوفي من لقاء أحدهم وهم الأيقونات الأدبية لذلك الزمان (1964) ، ومع ذلك نُشرت وتسربت لي مقالات على صفحة كاملة ، وكتبتُ ونشرتُ خلال ستين سنة ما يكفي لإصدار عشرات الكتب وأحجمت عن فعل ذلك ، وما أزال أكتب ، وأعترف دون خجل ، بعد تجربة ثقافية واسعة ، وتحصيل معرفي وأكاديمي جاد ورصين ، أن قناعاتي القديمة حول جدوى الكتابة والثقافة قد انحرفت وتبدلت تماماً واستدارت كما سأشرح !
رؤى الماضي البعيد :
في العاشرة من العمر تلمست يداي كتاب (الزاد) ، وهو كتاب مدرسي أدبي لأحد أشقائي للمرحلة الإعدادية آنذاك (1952) يضم المعلقات وغيرها . وبهرتني كتب عظيمة في خزانة كتب بيتنا ، أحدها لعبد الحق فاضل عن عمر الخيام الفلكي الرياضي والشاعر الكبير ، وكتاب لشكيب أرسلان ، واعترافات جان جاك روسو ، وروايات وقصص ومجلات فنية ( مجلة حواء لشقيقتي ، والفصول والمختار ) ، وكان أن أصبتُ بعدوى وباء ومرض القراءة طفلاً صغيراً ، ولم ينصحني أحد بأخذ اللقاح المناسب ، وهكذا تحولتُ إلى معوّق ومن ذوي الاحتياجات الخاصة لمصل الثقافة وفيتامينات المعرفة إلى يومنا هذا وأنا في الثمانين ، وتفاقمت الحالة إلى داءٍ عضال حملته جينات الإغريق واستوطن أثينا ، واسمه الفكر ، وإذا استعصى على الشفاء تطور إلى فلسفة .
ذلك الشغف المرضي والإعاقة المبكرة تحولت عندي إلى عقدة نفسية . كل من لا يعرف شكيب أرسلان ، ولم يسمع باسم عمر الخيام ، وخانته ظروفه ولم يقرأ جان جاك روسو، هو عندي (سبيعي) لم يكتمل حمله في رحم أمه ، وأورثني هذا الوضع الشعور العميق بالغربة عن أقراني .
وتكرست ورطتي حين عصف بي شعور التقديس لكل منمنمات :
1- الثقافة
2- المعرفة
3- العلم
4- الفكر
5- الفلسفة
وأن الإيمان بهذه العناصر هي أركان الحياة الوطيدة ، وغيرها قبض الريح ، وجنحَ عقلي إلى رؤى خيالية ، وأحيانا زائفة ، تجعل المثقف عندي بمرتبة قديس ، والعارف ببردة نبي ، والعالم عندي فوق الأولياء ، والمفكر بهيئة قائد ، والفيلسوف سيد العقل والحكمة . وأعلن اليوم إنني في حِلٍ من هذه المقولات المهترئة ، وأكملوا القراءة لتعرفوا السبب ، ويزول العجب !
رؤى الحاضر الجديد :
وأنا أغط في نومي العميق والعتيق ، هانئا بأحلام يقظة تتسامى بالثقافة إلى سدرة المنتهى ، وإذ بالربيع العربي يفاجئ أحلامي بداعش وأخواتها ، ويتدفق في واقعي المرئي المشخص والمحسوس أنهار من الدم ، وتغمرني بحيرات يمخر في مياهها تماسيح الفتنة والضلال ، ويلعلع صوت الرصاص وأزيز الطائرات وصدى المدافع الهادرة ، وانفجارات الألغام ومشاهد قطع الرؤوس ، والذبح على الهوية ، وقصف الشعارات والشعارات المضادة ، وإذ بعمر الخيام ملاحقاً وملعوناً وكافراً ومجوسياً وفارسياً يداهمه النيروز بقطع لسانه وتكفير خمرياته ، وإذ بشكيب أرسلان الدرزي وواسطة عقد مؤلفاته (حاضر العالم الإسلامي) تحت أحذية التطرف والتكفير والتكبير، وإذ بـ (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو تنفرط حبّاته إلى يهودي ومسيحي ومسلم ، وينفرط الإسلام إلى 73 فرقة ، يقال واحدة ناجية ، والأخريات داجية وساجية وهاجية وراجية وعاجية .....
فكيف لي أن لا أراجع مواقفي وقناعاتي وآرائي وأستقيل من جمهورية الجهل ؟ واسمحوا لي إذن أن أغادر (رؤى الماضي البعيد) غير نادم ، وأنفض يدي من (رؤى الحاضر الجديد) غير آسف ، وأنحو صوب (رؤى المستقبل البليد) لعالم تنهار قيم ثقافته ، وتهتز أركان معرفته ، وتتعقد إشكاليات علمه ، وتتردّى مقومات فكره ، وتنمحي معالم فلسفته !
لقد قالها ت. س إليوت في قصيدته " الأرض اليباب" حين وصف الأرض وصرخ بوجع : (أي الغصون تنمو في هذه المزبلة الصلبة؟). وكثيرون من المثقفين المعاصرين يرتابون من مزبلة عصرنا الملعون هذا ، وأنا منهم .
يكتب المفكر أمين معلوف في كتاب "الهويات القاتلة، ص 138" : (لا شك أن الريبة هي إحدى المفردات الأساسية في عصرنا :الريبة من الإيديولوجيات ومن الغد المشرق ، الريبة من السياسة والعلم والعقل والحداثة ، الريبة من فكرة التقدم ومن كل ما آمنا به خلال القرن العشرين عملياً ). وليس غريباً هذا التشاؤم المنطقي لكاتب مثقف مثل أمين معلوف ، شرح في كتابه "اختلال العالم" أسباب هذا الاختلال بالتفصيل .
وأنا أرى سبب اختلال العالم في تهميش الثقافة والمثقفين ، وتسطيح المعرفة والعارفين ، وتجاوز العلم والعالمين ، ونبذ الفكر والمفكرين ، ونحر الفلسفة والمتفلسفين ، وقمع الأدب والمتأدبين ، من جهة ، وإعلاء شأن التجارة والمتاجرين ، وتصعيد العسكرة والعسكريين ، ورفع الصناعة والصناعيين ، وطغيان الحروب والمتحاربين ، وتشريف الزيف والزائفين ، من جهة ثانية !
إن عالم الصيارفة والبنوك واللصوص والمرابين والمهربين ومتاريسهم ودكاكينهم ، لامكان فيه للثقافة والمثقفين ، ولا مكان فيه للشعر والشعراء ، ولامكان فيه للأدب والأدباء ، ولذا فأنا أعلن حزني وخيبتي وأسفي على حراثتي في بحر الثقافة لستين سنة دون أن أحصد سنبلة واحدة ، وأعلن انسحابي من فضاء الثقافة الرائع ، وأترك الساحة لأصحاب الشأن من الأكابر المحترمين : المثقف الكبير سامر فوز ، والعارف النطاسي وسيم قطان ، والعالم اللوذعي علي أبو خضر ، والمفكر الكبير نبيل نفيسة ، والفيلسوف القدير بوز الجدي .
وبالأصالة عن نفسي ، ونيابة عن بعض المثقفين الراحلين من الديريين حصراً كي لا أتجاوز حدود محافظتي ومسقط رأسي فيعتب علي أهل السلمية مثلاً :
المثقف الفقير ياسين الحافظ ، والعارف الفهيم اسماعيل العرفي ، والعالم الرياضي صباح بقجه جي ، والمفكر الشهير جلال السيد ، والفيلسوف الحكيم محمد الفراتي ، والأديب الألمعي سعد صائب ، نعتذر ونستقيل من (المزبلة الصلبة ) كما سمّى ت.س إليوت أرض المعمورة ، وننسحب من عصرنا ، أنا والذين جرى ذكرهم أعلاه من أهلي وعشيرتي ، ونطلب منكم السماح عن موقفنا المتخاذل والمتراجع والنكوصي ، وأعدكم وحدي بالتراجع عن استقالتي من جمهورية (باب الحارة) ، إذا فاز نادي الفتوة ببطولة كأس العالم للأندية ، وباض الديك الفرنسي ، وطارت الدجاجة اللبنانية من مطار رفيق الحريري إلى مطار شارل ديغول !!!!!
وأستحلفكم أن تستروا هذه (الردّة) الصريحة ، وأطلب العفو من سيف أبي بكر الصديق ، وأطالبكم بالكتمان كي لا يقطع عنقي "العريف غضبان" ، بطل قصة صديقي المثقف حسن. م يوسف ، وكي لا يعلن صديقي الشاعر نزيه أبو عفش العداء والخصومة بيننا ، بسبب تعثري وسفاهتي ونزاهتي !
دمشق 24 آذار 2021