يبست الأعشاب في مرج أحلامي ، وأغمد الربيع العبري ( العبري !) خنجره في قلبي الذابل وتكوّم الحب مشلولاً بلا حراك عاطفي تحت نوافذي، وران الصمت وتوقف حوار الغيمة البيضاء الناصعة لزرقة سماء يتيمة .
موشحاتي المموسقة ياكلها النعاس ،والأغنيات يعلوها غبار الوسن ، وألحان حنين ولهفة الشباب للغرام يغتالها غلاء الأسعار ، يا للعار ، والشوق للعناق أرداه صريعاً رصاص المطالبين بالحرية ، وأكاذيب ومسامرات العشاق توارت خجلى وراء شعارات السعي للمجد الفضفاضة .
الزعتر البري ، شقائق النعمان ، إكليل الجبل ، الريحان ، ورعيل من المفردات واللغات والهمسات مسحها جميعاً نداء الرغيف ، وجيل جديد من المفردات : زيت ، ضلع خروف مشوي ، فلافل ، بروستد سياحي ، هريسة ..... والقلب في مخاض الهجانة بين لغة الروح ولغة البطن ، يتكىء على أعمدة الوهم والأمل في عمارة وطن يغفو من الإرهاق والتعب .
يبس العشب وصار الوجود قاحلاً . انقصفت رقاب الحكمة والمعرفة وتقدمت الغرائز لترسم لنا المستقبل المسوّرٍ بالظن والشبهة . "ميدوزا" في أول الركب تمطرني بشرورها لتصنع مني صنماً حجرياً أخرس ، ولا "أفروديت" واحدة تهبني حضناً وطلاقة لسان ، وتندس في أحلام يقظتي ومنامي وتتوسدني بأرجوحة مناغاةٍ وثرثرةٍ تزحلقني إلى خدود وردية شهية . ماذا اعترى الكون من ذهولٍ ونسيانٍ لطقوس الحبّ الخرافية ؟
ماذا اعترى المرأة اللاهثة وراء هموم إصلاح عيوب شكلها ، متناسية أن ينابيع أناملها تكفي لسقاية عصبة وعصابة من العِطاش لجمال راحة اليد . لعنة الجهل تغزو "عشتار" . معبدها خالٍ من الشموع والدموع . وما بال "فينوس" الوارثة لكنز الحب والجمال ، قد سقطت خامدة بين يدي جراح التجميل ، وهي تستعطي المارة شيئاً من الدولارات لنفخ شفة ، وتكبير صدر ، وتقويس حاجب ، وتظليل جفن ، وكل الذي يهم "نرسيس" أن يسمع تنهيدة حب ، وشهقة نهد مهجور .
"الحب في زمن الكورونا" استبدّ وطغى ، وألقى بستائره الداكنة على رائعة "ماركيز" " الحب في زمن الكوليرا" ، إذ لم يعد بوسع "فلورينتينو إريثا" في زمن الكوليرا أن يطفئ لهيب عاطفة "فيرمينا داثا " بوردة بيضاء مضمخة بالندى ، ولا لمس ثوبها الرمادي كأرملة ، ولا المرور على جسدها الذي تفوح منه رائحة الصابون المنعشة . وها نحن نتخبط ونعوم في زمن الكورونا داخل بحيرة من القلق والشك والأقاويل ، وقد نسينا تماماً طعم القبل والعناق ، وصرنا نستعيد ما قاله الضابط في رواية "ماركيز" وقد تناثرت جثث الموتى التي تنتفخ تحت الشمس : لو الرب يحسّن من أساليبه .
أي حياة تلك التي طردنا منها "كيوبيد" الصغير وكسرنا قوسه الناعم ، وصادرنا رأس سهمه الذهبي الباعث للحب ، وأبقينا له الرأس الرصاصي الباعث للحقد والكراهية .
كل ماحولنا بات غارقاً في الزيف والكذب والرياء ، من باب بيتي إلى "باب الحارة" الشهير ، وهاجر الصدق يبحث عن شمس وقمر ونجوم تتألق في أرواحها المحبة والمودة والصداقة.
النجوى ، الهمس ، الشوق ، الحنين ، الرهافة ، التوق ،التأمل ، الوجدان ، السرائر ، اللهفة ، الصبوة ، الرغبة ، الوَلَه ، وأكوام من هذه البضاعة الكاسدة التي فتح لها "ابن حزم الأندلسي" دكاناً أغبرَ داكناً موحشاً ، وأطلق عليه إسماً راسخاً : (طوق الحمامة) . لكن ، وحين اكتسحت "المولات" الأسواق ، لم نعد نجد على الرفوف الناصعة البيضاء المرتبة سوى معلبّات البغضاء والغدر والجفاء والمقت الأنيقة الفاخرة ، وطارت الحمامة وبقي الطوق .
العالم ليس عقلاً كما قال عبد الله القصيمي ! صرنا في هذا الزمن الموحش فئراناً في متاهة بألف بابٍ وباب . جمهوريات بلا جماهير ، مساجد بلا مصلّين ، حدائق بلا أشجار ، عربات بلا خيول ، موائد بلا طعام ، أقدام بلا أحذية ، مقاهي بلا زبائن ، سينمات بلا متفرجين ، ومسلسلات بلا نكهة ، وجيوب بلا نقود . حوالي خمسون غراماً فقط من فيروس سافل أصاب مائة مليون إنسان بالكورونا وقتل حوالي مليوني مغدور ، ووليمة الفيروس ما تزال عامرة بالمصابين والمغدورين والعشاق المخذولين .
وداعاً أفروديت وعشتار وفينوس وكيوبيد بلا عودة . وأهلاً بـالإله " آريس" رب الحرب والهلاك والخراب ، ومعه "هيدز" وجحيمه المتنقل بين التجار والساسة ، وها أنذا أعلن استسلامي الكامل للإثنين ، وللدرك والجاندرما والمباحث ، وأعلن لكل نساء العالم إنني أنسحب مهزوماً من كل ساحات الغرام !
الأحد 28 شباط 2021
*الصورتان لكيوبيد وآريس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق