لكل مخلوق ذكي وعاقل أسرار لا يبوح بها وتنطوي معه لتكون التمتمات الخرساء لحجرقبره الأصم البارع بتجسيد الصمت كقيمة أخلاقية وفلسفية عالية . ومثل بعض المخلوقات النزيهة سأحمل القليل من أسراري والتي سأبوح بها فقط لحجرقبري ، وأمضي راضياً كل الرضى عن حياتي التي كانت مكشوفة ومفضوحة أمام الآخرين إلى درجة كنت أبدو فيها وكأنني الغبي الذي لا يعرف كيف يحتفظ بأسراره لنفسه كي ينجح في مواجهة سفالات الحياة !
علاقتي بالبوح بمنزلة علاقة المرء بالديانة وعلاقة الإنسان بالعقيدة . البوح هو صوت الشعر السحري الخفي المتفجر في قلب عاشق . البوح نبض وتر حزين يئن بالشكوى من ثقل الهجر . البوح هو الصلاة الوحيدة المقبولة في سماوات الفكر . البوح شجاعة النفس أمام محاكم الشهوات الظالمة ، والبوح هو خاتمة أشجان المسيح حين سلمه يهوذا الأسخريوطي للكهنة مقابل ثلاثين من الفضة ، فصلبه كهنة الباطل واقترعوا على ثيابه واقتسموها ، ولم يكن على شفتيه وقد اقتربت شهقة الموت سوى هذا البوح الجارح : يا إلهي إن شئت أبعد عني هذه الكأس .
في قلبي بوح جارح سأنتشله من بئر الكتمان وأطلقه من حبس المناجاة إلى فضاء التلميح لا التصريح ، ويصيبني التلعثم إذ أرى رذاذ البوح يمس أرواح وضمائر وعقول بعض الذين أحببت وأحب من الكائنات والمخلوقات التي أنعم الله علي بصداقتهم وجردتني الكارثة السورية من نعمة محبتهم بعدما اختلفنا في تقويمنا لحكاية سورية المصلوبة على خشبات التاريخ الفاضح .
* لا أرى في الصورة الحضارية والإنسانية والمدنية التي تتباهى بثورة التكنولوجيا العظيمة سوى السقوط والتردي ، وأرى التوحش الغربي يغزو بمعرفته المتفوقة أراضينا وبلادنا ، وننساق جميعاً بجهلنا وغياب حكمتنا لنكون غثاء ونكون حمير التاريخ المركوبة .
* يبدو لي جلياً أن الأديان التوحيدية السماوية الثلاث ، والمنظومات الفلسفية ونظرياتها الكبرى ، والأطر التربوية والثقافية والآداب والفنون ، عجزت عن بناء روح إنسانية مثالية تتسامى بالقيم الأصيلة مثل الصدق والأمانة والنزاهة والمحبة والوطنية والإيثار والعطف والإخاء وتوابع كل هذه الأكاذيب الكبرى .
* عشر سنواتٍ سوريةٍ عجاف مسحت من ذاكرتي المتعبة نبض سبعين سنة من حكايات نضال الإنسان وبحثه الدؤوب عن العدالة والحرية والكرامة ، وإذا به يحصد الريح والسراب ، ومارأيت وقرأت وسمعت في هذه العجاف، يجعلني غريقاً في بحر الشكوك ، مثلما غرق الآلاف في بحر الحلم بالخلاص . لا يقين ولا ثقة لدي بأحد . لا أصدق ما أرى على القنوات، وما أقرأ في الكتب والمجلات،وما أسمع في الإذاعات ،وعواصف الكذب والتزييف والتضليل والجنون تطحن الحقائق وتغتالها.
بلا عكازة الحقيقة يصبح المرء عاجزاً وأعمى ، وتصبح "الأنا" الناطق الرسمي للعدميّة .
* أصبحتُ نافراً في ، أسواق السياسة الوطنية والثورية السورية ،من البلاغة والقواميس وترسانة اللغات وأسلحتها الفتاكة ، تنتابني نوبات فزع ورعب من كل أشكال الفصاحة . تجتاحني فوبيا من مفردات مُسلحة بالأنياب : إرهاب ، ثورة ، ديمقراطية ، إسلام ، حوار، حقوق إنسان ،الشعب السوري ،شهيد، تكفير .....إلخ . كل هذه المفردات العربية سبايا في أفواه الباعة والتجار في مزادات السياسة الدولية . فقدت اللغة عذريتها . تحولت اللغة إلى مومس .
* نافرٌ من الأحياء ، نافرٌ من نفسي . منحازٌ إلى القتلى الأشرار والمغدورين الأخيار ولكل الذين نفقوا في الحرب السورية من الأجانب. منحازٌ لغفلتهم ولمصادفات موتهم في الأنفاق ووراء السواتر والمتاريس ووراء أكداس من القاذورات وروائح الزنخ البشري ، فيما قادتهم يخططون لأمجاد قد لا تتحقق في غرف مكيفة بالهواء والعطور .
* نافرٌ من مفبركي النعوات وحفاري القبور والجالسين في المقاهي أو في البيوت ـ مثلي الآن ـ ليبيعوا البلاغات الوطنية والسمعة الحسنة لأنهار الدم ، وهم بعيدون عن خطوط النار ،ويقبعون وراء أزرار كمبيوتراتهم وهواتفهم الذكية ، يرفلون بالنظافة والأمان والراحة النفسية والجسدية والكفاية والرضى ، ويزعمون مهما كانت أطياف انتماءاتهم أنهم بكتاباتهم التحريضية يشاركون في صوغ الوجه الجديد للأمة السورية .
هؤلاء كذابو الزفة ( شريحة تحيي الأعراس مقابل أجرة ) .
بوحٌ جارحٌ ممسوح بزيت الأسى على ماحصل في سورية ويحصل . وليس عند جبل الزيتون كما حصل مع المسيح ، بل عند جبل أشجار الكرز والدراق والمشمش والخوخ والتوت والجوز في الشام ، أرى جسد سورية معلقاً على خشبة صليب وهي تنادي : أيتها الموالاة ، أيتها المعارضة ، لمَ شَبقتاني؟ وسمعتُها وهي تتمتم بما بقي في حلقها من كبرياء وببوحٍ جارحٍ : تباً لك أيها السوري ، سلمت جسدي بثلاثين من الفضة ؟ لماذا أيها السوري جرعتني هذه الكأس ؟
ــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق