الأحد، 18 أغسطس 2013

عاشق وطن مشاكس.. في برنامج الاتجاه المعاكس :: 11/08/2011

جريدة القبس :: العربى و الدولى ::

«ابو العز الحلبي، مواطن سوري يعمل في الكويت، وهو متابع دقيق للاوضاع في سوريا، ويعيش احداث الانتفاضة، يحاول ان ينقل تلك الاوضاع والاحداث من خلال حوار واقعي الى حد بعيد، مع عضو في حزب البعث السوري، يكشف آلية تفكير النظام البعثي».

آه يا وطني.. حين تهب رائحة عطرك.. يكتشف الهواء مجده!
مازالت السنوات تعبرني عاما بعد عام وتصقل بشفراتها ماسة حبك.
زفرة خرجت مني وأنا في الطريق لمقابلة مسؤول في بلدي كان من رموز السلطة البارزين، فأصبح لاحقا من رموز الفساد المحترفين.
جاءني معاتبا نزوحي عن وطني.
بدأت الجلسة بالسؤال التقليدي: لماذا لا تعودودن؟
سؤال مفخخ من جهة ومبالغ به من جهة أخرى.
قلت له ماذا أخبرك وكلما أزور البلد أرى حقولا تقتل قبائلها نجباءها.. وتتهمهم بإضرام النيران
أمرّ بأشلائهم على أرصفة البكاء.. وقد أدانهم الجلادون بإعدام الضحايا.
والعجيب ان الامهات بدأن يصدقن تلك الأكذوبة.
أرى طيورا مقصوصة الأجنحة.. ملقبة بالبشر
فأنفق ذعرا من شؤم الناس،
فيلعنون صوتي بدلا من لعن آثامهم.
كنت مرة نورسا رافق السندباد في رحلاته،
لكن أهوال البشر في بلدي.. بدلت ملامحي.
كنت أمد جناحي من الأفق الى الأفق،
ولكن القتلة خافوني لأنني فاجأتهم وهم يقترفون آثامهم.

لماذا أعود؟
هل تريدني أن ألاطف الأشباح الوديعة من أصدقاء أبي وعمي.. أم ان أقابل أرواح الموتى من أجدادي وهي تصعد الى السماء هاربة من ابن آوى وابن آدم ؟
هل تريدني أن أعود كي لا يصيبك نحس بني قومك البشر الذين يلوثون البحار بحراس موانئهم ويجرحون بشرة الفضاء بدخان شعائرهم وينتهكون حرمة الأرض بنهب آثارها ونفطها، وهم ينعقون في كرنفالات الشعارات ومهرجانات الموت العبثي متربعين فوق التوابيت يحاضرون عن البهجة والانفتاح ثم يختفون وراء الكواليس يسنون أنيابهم على أطراف سكاكينهم لينكبوا في كل عرض على وطنهم طعنا بالخناجر والمخالب لنهش جسده المصلوب؟
صحيح انني تعبت من ارتداء وجه لا يخصني راكض فوق خرائط مكهربة بالثلج أولا والغبار ثانيا.. تعبت من الاجابة عن السؤال التاريخي من أين أنت.. من أي بلد؟
صحيح انني ضال بدونك يا وطن.. أهيم في الفضاء مثل بالون أفلتته يد طفل في العيد.. ونسيته..
آه منك يا طفولة.. تلتصقين بذاكرتي كصداع نصفي وتنهشين زمني كسمكة قرش مثالية.
آه من حكايا ريح الوطن وأمواجه..
لماذا تذكرني تلك الطفولة بحبك
بشهقاتي يوم شاهدت البحر للمرة الأولى وكنت تلميذا في رحلة مدرسية
لماذا تراني مازلت أذكر أول تفاحة قطفتها خلسة عن شجرة.. والتهمتها سرا دون ان اغسلها يوم ذهبنا الى أريحا مع صديق والدي.
لماذا تذكرني حكايتنا، بأول أرجوحة ارتعش جسد طفولتي لهبوبها وفرح بتحليقها وسقوطها.
لماذا تذكرني حروفك.. بجموح فتوتي وظلمات مراهقتي؟
لماذا يذكرني حبك.. بأول شجرة لوز تسلقتها وأول سقطة موجعة عن غصنها.
لماذا يذكرني حبرك الأخضر.. بالصباغ الداكن للجوز الأخضر على أصابعي..
صحوت من تأوهاتي وأحلامي على صوت رفيقي المناضل في الجلسة يشتم في المؤثرات الغربية في علمي وتفكيري ويسب المؤثرات الحسية في أدبي وانسانيتي.
بل حتى انه لم يخجل من جهله وهويته العقائدية فانهال نقداً لديني وعقيدتي..
عبثاً حاولت اقناعه.. بأنني استعمل أحياناً بعض أدوات الغرب ليزداد قمر وطني سطوعاً.
وانني انسان ذو حس مرهف ارتجف لسماع نشاذ البربر، وأن تعاليم ديني هي مكارم الأخلاق ودستور الحياة، أنزلها العارف بأمر العباد.
عبثاً حاولت اقناعه.. لكن تابع انتقادي.
وهو ينفث في وجهي سجائره الأميركية..
ويتأزم داخل قميصه الألماني..
ويضرب الأرض بحذائه الايطالي..
ويعبث بساعته السويسرية..
ويمسح غباش حمقه عن نظارته الفرنسية.
ويتابع القاء محاضرته عن العودة الى التراث.. باللغة الروسية.
ويفهمني «أسرار اليسار» وأثر الكافيار يتناثر من فمه على أوراقي ووجهي..
يا لها من ليلة!.. ليلة الشجار مع يسار الكافيار..
ويتوقف الشجار مع فاصل لموجز الأخبار..
وتقدم لنا القهوة

***

وأعود الى حلمي ثانية فأرى أصابع أمي المتورمة بالحنان وهي تناولني فنجان قهوة عربية أصيلة.. وتنظر اليّ نظرة حب واكبار كأنني أمير الشرق كله..
وأخرج من صومعتي على صوت جليسنا:
وهو يتهمني بعدم دفعي حق النفقة على الوطن..
ويقول هكذا نسيتم الفقراء..
وأخبره بأننا الفقراء الحقيقيون..
فقراء الحقوق.. فقراء الحرية والكرامة.. فقراء الانتماء والأمان..
ويتابع قائلاً: ألا ترى أنك تتنصل من النضال؟..
وأرد عليه: ألا تعتبر غربتنا ومحاربتنا من قبل حكامنا رغم بعدنا عنهم.. وتنصلهم عن معظم مسؤولياتهم تجاهنا، ووضع كل ما أمكنهم من العراقيل في طريقنا.. غير آبهين بما تنكله حكومات الأغراب فينا.. ألا تعتبر ذلك أيها الرفيق نضالاً؟
لم يسمعني الأستاذ «المسؤول»..
لم يشعر بينابيع الأصالة التي تفور في دمي..
وكيف يشعر وهو يفتقد قلق العطاء.. وينبح بأن ذلك كله هراء بهراء.. وأستفيض غضباً وجرأة! كيف يكون ذلك هراء؟..
وشعبك لا يمتلك ثمن الدواء!.. أو حتى أجرة تصليح الحذاء، ويقول لو كان هذا صحيحاً فأين النقاد؟!
وأقول كيف تعتب على الذين يكتبون النقد والذين تبقى منهم خارج السجون يحصون ما في جيوبهم من نقد؟
وأصهل كالعاصفة في وجه الذي يدير الجلسة.. لا أريد المشاركة في ذلك السباق الغبي لإلتهام جزرة.. حتى ولو كانت على حساب «قناة الجزيرة»..

أعود إلى هدوئي وأقول له دعنا من كل هذه المهاترات لنعود إلى أصل الإشكال.. ولنفترض منظّرا محايدا يزور بلدنا يرى رئيسه يختزل السلطات الثلاث في شخصه ومن خلال مجلس استشاري في قصره، يملي فيه على الوزراء والنواب ما يريد، والجميع عليه السمع والطاعة ويا ويله من قال لا. هناك عائلته وزبانيته تتحكم في كل موارد الشعب فتمتلك ما تريد لنفسها وتمرر للآخرين ما تراه يعود عليها بأتاوه مجزية، إذ لا يسمح لمشروع أن يمر دون أن ينال الإذن منها. وحزب قائد استولى على الأغلبية في المجلس النيابي وترك بعض فتات المناصب للأحزاب التي تدور في فلكه أو ما يدعى ببعض المستقلين الذين ترصد حركاتهم تحت العدسة وهم يعلمون ماذا يمكن أن ينالهم لو خرجوا عن الخط المرسوم لهم.. حزب أسسه في الاصل أناس منبوذون اجتماعيا وفاسدون أخلاقيا ومتسلقون سياسيا بدأوا بالتسلق عندما ادعوا الناصرية لتدعمهم في سلب الحكومة الوحيدة الديموقراطية التي كان لها الجرأة في أن تكف يد الاتحاد الاشتراكي المصري عن التحكم في سوريا وسلب خيراتها وشفط حقوق مواطنيها والسيطرة عليهم باسم المد القومي الثوري.
فإذا كان لديك مثل هذا الرئيس الذي ورث العهد السلطوي العسكري من أبيه وعائلة ترشف الاخضر واليابس من موارد البلد دون أي مساءلة، وجيش عنصري لأقلية معروفة بأصلها الوضيع وحقدها الأسود، وحزب أعضاؤه ملوك النفاق المبتذل والسلب المكشوف ومرتزقة للنظام وزبانيته.. ألا يحق لشعب هذه الأمة أن يعترض ويسأل عن حقوقه في المساواة والحرية والكرامة
ويتابع قائلا أين المعارضة؟ أين تنظيمها ولجانها أين ممثلوها في الداخل والخارج؟
وأجيب إن تنظيمكم ولجانكم وأمنكم قضت على كل صوت معارض واعتقلت كل شريف مجاهر، ومنعت كل مواطن يشكو من ظلمكم أن يعود إلى وطنه أو يحصل على وثيقة من بلده، تمثله في الخارج.
ان سيرتكم الذاتية على مدى نصف قرن لا تشفع لكم بشيء بما اعتراها من كذب وثقافة وخيانات وفساد وتجن وطغيان فكيف يصدقكم الناس ويكذّب كل منظمات حقوق الانسان والامم المتحدة والدول الديموقراطية في العالم، حتى ان حلفاءكم بدأوا بالتبرؤ منكم.
واذا كنت تدعي أن الذين ينتقدونكم هم خارج الوطن ولا يرون ما حققتموه داخل الوطن فالآن الوقت حان ليكذبكم حلفاؤكم المتاخمون لكم والذين يستقبلون ضحايا ظلمكم ويسمعون انينهم وشكاواهم، وهل هذه الالوف من العجزة والنساء والاطفال التي تحكي اقاصيص بطشكم وحقدكم ايضا كاذبة؟! انهم شهداء العصر على كل ما تقترفونه من جرائم.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق