الممنوع مرغوب *
كتب الاستاذ جهاد الدين رمضان
أول رحلة طويلة في حياتي كانت إلى دمشق في أول الثمانينات ، على صهوة باص اسكانيا فاخر، أحد باصات نقل الركاب المشهورة بالهوب هوب، ارسلني فيها أبي بمهمة عاجلة إلى بيت خالي كمال - رحمهما الله - لتوصيل مبلغ من المال كان قد استدانه منه ، رسم لي أبي خريطة بيت الخال في حي "الفحّامة" بدمشق مع أسماء الشوارع و الأزقة المفضية إليه ، و من باب الاحتياط و للطوارئ فقط، كتب لي في ورقة أخرى رقم هاتفه المباشر في مكان عمله ، و أعطاني الأمانة و مصروف الرحلة و الجيب و الرفاهية كمان، و قال لي : احذر جيداً من أن يسرقك أحدهم، أو أن تضيع في الشام، إذا حدث معك اي مشكل اتصل بخالك، اذهب بأمان الله و توصل و ترجع بالسلامة يا روحي .
انطلقت من بيتنا في حي "السكري" إلى كراج "الإنطلاق" قبل منتصف الليل حسب التعليمات، خبأت المبلغ "المحرز" في ثيابي الداخلية، و احتفظت بمصروف الطريق في جيوبي، لما وصلت الكراج اشتريت باكيت دخان اجنبي فاخر من بسطات "التهريب" العلنية، لأدخنه علناً بعيداً عن أعين الوالدين (كنت حينها في مرحلة الكفاح السري لنيل حرية التدخين ) ، كما اشتريت التذكرة و بعض التسالي و الأكلات و ربما مجلة ما، كانت تذكرتي تنص على حصولي على مقعد في منتصف الباص بعيداً عن السائق، لكن في الباص قال لي المعاون اجلس على غطاء المحرك مقابل "الجيب". قلت له : و الله أمرك عجيب، كيف أجلس على غطاء المحرك و قد كتب عليه ( ممنوع الجلوس على غطاء المحرك)؟ ضحك و قال لي : الممنوع مرغوب!
جربت الجلوس فوقه كما طلب مني، لكنني لم أشعر بالراحة فخرجت و جلست في المقعد الفارغ المزدوج خلف كرسي السائق مباشرة، جاء المعاون بعد أن صرخ قليلاً خارج الباص ( ع الشام، ع الشام راكب واحد) ليشرب بق ماء من الحنفية المزروعة في عمود عريض لامع قرب الباب، شاهدني جالساً في المكان المكتوب فوقه بالقلم العريض (خصوصي) فشدني من يدي و أخرجني من مقعدي قائلاً : هذان المقعدان محجوزان، ألا ترى ما هو مكتوب فوقهما؟ قلت : نعم، رأيت و قرأت بأن المكان خصوصي، رأيت المقعد خالٍ فجلست فيه، هل هو ممنوع كمان؟ قال نعم، و اخرج من الباص إذا لم يعجبك الجلوس على غطاء المحرك.
هممت بالنزول من الباص، فأشفق علي أحد الركاب و قال لي : تعال اجلس قربي أيها الشاب، أنا حجزت مقعدين كيلا يزعجني أحد، و يبدو أنك مهذب و لطيف و لا أظنك ستزعجني في كل حال. شكرت الرجل و جلست قربه محاذراً ازعاجه، لكنه لم يتوانَ عن ازعاجي طول الطريق.
كان المعاون في الحقيقة ينتظر "راكبة" جميلة أو اثنتان، لا كما يدعي في صراخه (راكب واحد ع الشام)، و الحمد لله لم يطل انتظارنا لهذا الراكب المأمول، فقد صعدت امرأة بصحبتها بناتها الثلاثة، فأقعدهن المعاون البشوش في المقعدين المزدوجين خلف السائق مباشرة، تحت الكتابة العريضة ( خصوصي) تماماً، حينها فهمت معنى الكلمة و عرفت لماذا تبرع الشباب لهن بالمقعد الثاني، فالجلوس في الجيب أو فوق غطاء المحرك يمكنهم من رؤية البنات. بعد الإطمئنان على راحة الشابات و الأم ، دارت عجلات الباص و أدار السائق شريط كاسيت لأم كلثوم في مسجلة الباص، و على أنغام أغنية ( كلموني تاني عنك، فكروني) قضينا وقت الرحلة، كلما انتهت أعاد تشغيلها حتى كادت أم كلثوم تخرج من قبرها و تقول له كفى "يا مسهرني" ارحمني أرجوك ، زميلي الذي تبرع لي بالمقعد يفصفص بزر الجبس طول الطريق، برغم المنع المكتوب فوق المقاعد ( ممنوع أكل البزورات و رمي القشور تحت المقاعد ) ، و كل فترة ينظر إلى وجهه في زجاج النافذة العاكس و يهذب شعره و يستأذن مني لأفسح له المجال كي يذهب لشرب الماء قرب النساء، و أغلب العساكر نائمون لا يأبهون بمن عطش أو ارتوى، فقط جماعة ركاب الجيب و غطاء المحرك ساهرون و يدخنون رغم المنع الآخر ( ممنوع التدخين) و يتكلمون مع المعاون و السائق الذي كتب خلف كرسيه بخط عريض جميل (ممنوع التكلم مع السائق)، و بدوري لم أفوّت فرصتي الذهبية في التدخين بحرية رغم المنع المكتوب .
انتهت الرحلة في ثماني ساعات بسبب الليل، و قلة مرات التوقف مع كلمة (هوب، هوب )، و ظفر السائق و معاونه بصحبة الأم و البنات في استراحة المعرة و النبك، و ربما في استراحة أخرى ضمن دمشق.
أما أنا فقد أتممت مهمتي بنجاح و سلام، و خرجت من رحلتي بدرس مفاده الممنوع مرغوب.
فإذا أراد أحدكم أن يروج لأمر ما، يكفي أن يعلن بأنه ممنوع، مثل شارة 📛 المنع التي يضعونها على أفلام "بايخة" على زعم أنها تحتوي مشاهد مثيرة، أو مثل الفيديوهات "المسربة" قصداً موضة هذه الأيام..
*النص من وحي مذكراتي ، و الصورة من النت لمصدرها الموسوم فوقها.
....
المصدر صفحته الشخصية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق